يتعرّضُ النّظام السّياسي (الديمقراطي) في العراق، للمرة الثانية في غضون عامٍ واحد لهزّةٍ كبيرة، تمثّلت الهزّة الأولى بثورة (تشرين الاول/ اكتوبر) التي رفعت شعار إسقاط النظام وقدمت مئات الضحايا وآلاف الجرحى، في إشارةٍ لانعدام الثقة ليس بمخرجاته فقط؛ بل بكل من عمل على تطويع هذا النظام لأهدافٍ غير عادلة وخارجة عن الثوابت الدستورية.
فقد وجد العراقيون أنفسهم بعد سبعة عشر عاماً، أنهم يعيشون في دولتهم بلا قوانين وبلا سلطة، في ظلِّ حكوماتٍ فاسدة وقاتلة لهم، ولذلك تحرّكوا لإنهاء حالة الفوضى والعبث واستعادة الدولة وفقاً لعقدٍ يلتزم فيه الجميع على قاعدة الشعب مصدر السلطة السياسية وليس عدد من الزعامات المأزومة، وبذلك صارت الشرعية الشعبية للنظام مفقودةً إلى حدٍّ كبير.
الهزة الثانية، تتمثّل بدعوة هرم السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية “برهم صالح”، إلى صيغةٍ منتظمة جديدة للعراق، وأشار «أن البلاد بحاجة إلى عقد سياسي جديد»، واعتبر «أن منظومة الحكم التي تأسست عام 2003 عاجزة، ولا يمكنها خدمة البلاد».
وهي إشارة واضحة إلى حقيقة الخلل البنيوي في النظام القائم وطريقة الحكم، والإقرار بأن معادلات السلطة التي تأسست بعد عام 2003، تعرّضت لتصدّعٍ كبير، ولا يمكنها أن تخدم المواطن الذي بات محروماً من أهم حقوقه المشروعة.
وبهذا، فإن الرئيس “صالح” كان أقرب إلى نظرية “جون لوك” الذي ناقش طبيعة العقد الاجتماعي في كتابه (حول الحكومة المدنية) والتي كانت فلسفته هو أن الناس يتنازلون عن بعض سلطاتهم للحاكم، لكن هُم سيد الموقف في تقرير مصيرهم.
مقابل وجود زعماء وطبقة سياسية كانت مؤمنة بأن العقد (السياسي_ الاجتماعي) الذي جاء عبر انتخاباتٍ مُزوّرة، تتيح وتصبح مبرراً وحجّة لها لاحتكار السلطة ومؤسسات الدولة وحق وضع القوانين وحق تفسيرها، بل الحق في إعادة السلطة الاستبدادية المطلقة للأحزاب وإلغاء الجماعات والنُّخب والكفاءات السياسية الجديدة.
على الأرجح، ما تحدّث به الرئيس “برهم صالح” يمثّل قراءة دقيقة وواقعية لطبيعة الأزمة السياسية في العراق التي هي أزمة نظام وأزمة طبقة سياسية وأزمة شعب، فالعراق يعيش لحظة اختلال وانعدام ثقة الشعب تجاه الطبقة السياسية، حيث أن العملية السياسية لم تعد تسير وفق قاعدة أن العلاقات بين الحاكم والمحكوم واجبات متقابلة.
وبالتالي، فإن التوجّه نحو عقدٍ سياسي جديد يمثّل أولى خطوات الإصلاح، سيما أن طبيعة تراكمات 17 عاماً كفيلة بالذهاب نحو تنازلٍ من أجل العقد السياسي الجديد وصولاً إلى عقولٍ ووجوهٍ سياسية جديدة تضع الأسس الصحيحة لنظامٍ سياسيٍّ رصين لا يكون مُرتهناً للخارج، ويحقّق تكافؤ الفرص والعدالة وحق المشاركة السياسية.
إن ما أشار إليه “صالح”، يتماهى مع مطالب ثورة (تشرين- أكتوبر 2019)، وهي رسالة تحذيرٍ أخيرة لقوى الفساد والإقصاء، مفادها أن عدم القبول بتنازلات؛ سيقود إلى ثورة عنيفة وسيكون مصير القوى والأحزاب والتيارات التي أمسكت بالنظام والدولة بعد عام 2003 ليس أفضل بل أسوء من مصير النظام السابق ورموزه.
لم يفِ النظام وطبقته السياسية في العراق بتحقيق الديمقراطية والعدالة للشعب، بل حوّل الدولة إلى مساحةٍ للظلم والفساد وإلى إقطاعيات عائلية وحزبية وإلى سلاحٍ موازي للدولة، وصار من الضروري ومن المصلحة العليا للبلاد إيقاف النظام السياسي الحالي والبدء بمرحلةٍ انتقالية تقودها نخبة وعقول جديدة لا تتواجد فيها الأحزاب الملوّثة التي انتهكت العراق وشعبه، وفق استراتيجية حوارٍ وطني تبتدئ باعتذار قوى الفشل وانسحابها من المشهد، وتنتهي بحوار الفعاليات السياسية تعود من خلاله السيادة للشعب وليس للحاكم التابع.
إن فكرة العقد السياسي الجديد، هي إعلانٍ رسمي عن نهاية النظام السياسي والقوى الممسكة فيه بما لا يحتمل التأويل والمناورة مجدداً، ولا بد من الإعداد الوطني للمرحلة القادمة؛ بما يتناسب مع حجم طموحات الشعب العراقي.