من محافظة الأنبار، خرج شاب يواجه مرضًا وراثيًا نادرًا، ليس فقط بالعلاج والتحمّل، بل بالابتكار. عمر محمد خضير، طالب في مدرسة الموهوبين من مواليد عام 2011، اختار أن يحوّل ألمه إلى حياة، وواقعه القاسي إلى وسيلة لخدمة الآخرين، عبر مشاريع علمية وتكنولوجية أثارت الإعجاب في مسابقات محلية وعالمية.
قصة ألم.. تحولت إلى دافع
ولد عمر وهو يحمل بين خلاياه مرض نزف الدم الوراثي "الهيموفيليا"، وهو مرض نادر يحدث بسبب نقص في مادة التخثر داخل الجسم، ما يؤدي إلى نزف مستمر وخطير عند أبسط إصابة.
يقول والده، وهو منتسب في وزارة الداخلية، إن الصدمة كانت أكبر من أن تُحتمل، "كان طفلاً بعمر أيام، ولا يتوقف عن النزيف، لم يفهم الأطباء حالته بسهولة، ونقلناه من مستشفى إلى آخر بلا جدوى."
في عمر عشرين يوماً فقط، خضع عمر لعملية جراحية في الرأس، ولم تكن أدوية التجلط متوفرة حينها داخل البلاد.
ويضيف والده "اضطررنا لشراء العلاج من الخارج، ست حقن فقط كلفتنا 22 مليون دينار، واستدنا المبلغ لأنه كان مسألة حياة أو موت."
ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلة عمر اليومية مع العلاج والخوف والبحث المستمر عن الحقن في مستشفيات المحافظات.
بين كل إبرة وجرعة حياة: الطفولة التي بدأت بالدم
امتدت الشهور الأولى من حياة عمر محمد لتكون سلسلة طويلة من الزيارات الطبية المتكررة، بحثًا عن تفسير لحالته الغامضة آنذاك. ومع مرور عام ونصف، تبيّن أن هذا الطفل الذي لا يكف عن النزيف مصاب بمرض نادر اسمه "الهيموفيليا"، حيث يفتقر جسمه للمادة المسؤولة عن تخثر الدم، ما يجعل أبسط إصابة قد تهدد حياته.
لكن التحدي الأكبر لم يكن المرض بحد ذاته، بل تفاصيله اليومية، إذ لم يكن من السهل إيجاد وريد في جسد صغير ومرهق، فأُجبرت الفرق الطبية على وضع الكانيولا في مواضع غير تقليدية: الرأس، الخد، الأصابع، وحتى القدمين.
وكانت تلك الإبر والحديث لأهله، في ظاهرها علاج، لكنها حملت في طياتها وجعًا متكررًا لطفل لم يبلغ الخامسة بعد.
كبر عمر، ومعه كبرت المعرفة بالمرض والتأقلم معه، إلى أن ظهرت لمحات مبكرة من ذكاء لافت في سلوكه وتفاعله مع من حوله. وبدا أن خلف ذلك الجسد المنهك عقل متقد لا يهدأ.
حين حان وقت دخول الروضة يتابع ذووه، واجهت العائلة صدمة جديدة، مؤسسات تعليمية عدة رفضت استقباله، خشية تعقيدات حالته الصحية، ولكن في لحظة مصادفة، وُجدت روضة وافقت على استقباله بشروط قاسية، منها إخلاء المسؤولية القانونية في حال حدوث أي طارئ صحي له داخلها، ورغم ذلك، أكمل عمر عامه الأول في الروضة بروح متمردة على الألم، وبحب فطري للتعلّم.
توالت الأعوام، وازداد تعلّقه بالمدرسة، حتى قرر خوض اختبار القبول في مدرسة الموهوبين في الصف الثالث الابتدائي، متحديًا نحو 500 طالب، ليتفوق في جميع المراحل ويظفر بمقعد نخبوي، كان بمثابة بوابة عبور نحو عالمٍ أكبر، في تلك البيئة المشجعة، بدأت تظهر ملامح شغف جديد لديه: البرمجة، ومن خلال دورات عبر الإنترنت، بدأ عمر رحلته في فهم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، دون أن يكون هناك معلم حاضر، بل فقط فضوله، وإصراره، وشاشة حاسوب.
شارَك في ورش ومسابقات داخل العراق وخارجه، ممثلاً بلاده بموهبة فردية لم تُصقل في مؤسسات كبرى، بل في غرفة صغيرة، مدفوعة بأمل عائلة تؤمن بابنها. ورغم قلة الدعم المالي، والاعتماد شبه الكامل على موارد أسرته، استطاع أن يحصد جوائز مرموقة، أبرزها لقب "أفضل مكتشف في الوطن العربي.
من الأزمة إلى الإلهام
في خضم المعاناة، بدأ عمر يصنع طريقًا خاصًا به. خلال جائحة كورونا، وبينما توقفت المدارس، وجد في البرمجة ملاذًا جديدًا. يقول المبتكر الموهوب بحديثه لوكالة الأنباء العراقية (واع): "كنت وقتها في الصف الثاني الابتدائي، بدأت أتعلم أساسيات البرمجة من الإنترنت، وشجعني أهلي. وجدت نفسي أستمتع، وأحب أتعلم أكثر."
شارك عمر في دورات تدريبية لتعلم لغات البرمجة، وسرعان ما بدأ في تنفيذ أفكار ابتكارية، أولها كان مشروعًا إنسانيًا بامتياز: "منبه العوائق للمكفوفين"، وهو جهاز يساعد فاقدي البصر على التحرك بأمان عبر استشعار العقبات أمامهم.
عرض عمر اختراعه في عدة مسابقات محلية ببغداد والنجف والموصل، ولاقى إشادة واسعة، ما منحه دفعة قوية للاستمرار في هذا المجال، وتطوير مهاراته رغم كل الظروف
"كل وجع ممكن أن يتحول إلى طاقة" اختراعات لخدمة الإنسان
ابتكارات عمر لم تكن ترفًا تكنولوجيًا، بل كانت نتاج شعور عميق بمعاناة الآخرين. فكان أول اختراعاته "منبه العوائق للمكفوفين"، جهاز يساعد فاقدي البصر على تجنب الاصطدام بالعقبات. ثم جاء الابتكار الثاني، وهو "منبه ارتفاع الحرارة للرضع"، جهاز يراقب حرارة الطفل، وفي حال تجاوزت الحد الطبيعي، يتصل تلقائيًا بهاتف الأم لتحذيرها من الخطر.
أما الابتكار الثالث فكان نابعًا من حوادث تكررت مرارًا، حيث ينسى بعض الآباء أطفالهم داخل السيارات. صمّم عمر جهازًا ذكيًا يُثبّت داخل السيارة، يرصد بكاء الطفل أو ارتفاع الحرارة أو تسرب الغازات، ويتصل مباشرة بذوي الطفل لتحذيرهم من الوضع الطارئ.
بفضل هذا الابتكار، مثّل العراق في البطولة العربية للروبوت والذكاء الاصطناعي في قطر، وحصل على لقب أفضل مكتشف في الوطن العربي.
وفي خطوة إنسانية أخرى، صمّم عمر جهاز تنبيه للأمهات الصم، يحوّل صوت بكاء الطفل إلى اهتزازات وإشارات ضوئية على سوار تلبسه الأم، ما يتيح لها الاستجابة لطفلها رغم إعاقتها السمعية. نال بهذا الابتكار جوائز عدة، منها:
•أفضل فكرة خارج الصندوق من شركة أمازون في المسابقة العالمية "كوديفور" بالإمارات
•المركز الثالث في البطولة العربية للروبوت في الأردن
•مشاركة مشرفة في تحدي المخترعين العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية
•بالإضافة إلى مشاركات متميزة في ملتقيات محلية كـ"ملتقى المبدعين للذكاء الاصطناعي والروبوت" في محافظة نينوى
بين النزف والأمل.
يقول عمر: مرضي لم يكن عائقا.. كان محفزا. كل وجع مرّيت بيه، وكل نزف عشته، جعلني أحس بمعاناة الناس وأفكر بكيفية مساعدتهم، أكثر شيء جعلني أستمر هو دعم أمي وأبي، وتشجيع ناس مؤمنين بموهبتي، أنا أريد الوصول، ليس من أجل ان أنجح، ليصدق غيري إن المرض ليس النهاية، أبدًا.
الابتكار الأقرب لقلب عمر كان جهاز إنذار الأم الصمّاء، لأنه يمنح الأم إحساسًا لم تكن تملكه، ويمنح الطفل شعورًا بقربها منه "كل اختراع صنعته فيه شيء من ألمي، لكن هذا تحديدًا فيه شيء من الحب يقول بحديثه لوكالة الأنباء العراقية (واع).
ويتابع:أحلم أن أتخصص في مجال الذكاء الاصطناعي، وأقدم شيئًا مهمًا لبلدي. المسابقات كانت مدرسة كبيرة علّمتني من أخطائي وعرّفتني على قدرات الشباب من مختلف الدول، وكل لجنة تحكيم كانت تضيف لي ملاحظات أعود بها لأتطور أكثر. النوادي والدورات التدريبية كانت بيتي الثاني.
لكن العلاج يظل التحدي الأكبر أمامه:
يقول عمر "علاجي يُجهّز لي في المستشفى مجانًا، لكنه ينقطع باستمرار، وهذا أكبر عائق أمامي في المدرسة والمسابقات. الفيالة الواحدة ثمنها ثلاثة ملايين دينار عراقي، وأحتاج إلى اثنتين أو ثلاث أسبوعيًا. النزيف لا ينتظر."
وعن الدعم الذي رافقه، يذكر عمر بكل امتنان: "أهلي، مدرستي، وأساتذتي في مؤسسة IOT Kids، أستاذ محمد العزاوي، والأستاذ علي الزبيدي من مؤسسة الأجيال، والكثير من المسؤولين الذين استقبلوني ودعموني، ومنهم البروفيسور ضياء الجميلي مستشار رئيس الوزراء للذكاء الاصطناعي، وكادره د. عمار حسين ود. رغد... جميعهم صنعوا فيَّ إيمانًا لا يُنسى".