بملابسه الرثة وشعره الأجعد ووجهه ذو الملامح المتعبة، يجلس زيدون، في طرف مقهى يرتاده أغلب سائقي السيارات. يطفئ سيجارته ثم يشعل واحدة أخرى سريعا. كان ينتظر شخصاً ما، وقد جاءه أخيراً، فجلس بقربه لدقائق وغادر مسرعاً بعدما أعطاه شيئاً بيده.
يتكرر هذا المشهد مع زيدون (37 عاما)، وهو أحد سائقي سيارات الحمل في الناصرية، كل ثلاثة أو أربعة أيام في نفس المقهى، وفي بعض الأحيان يصبح المشهد يوميا حينما لا يكون لديه عمل، وقد يضطر لأخذ الحبوب المخدرة من الموزع بالدين، ثم يسدده لاحقا بضمانة زملائه السائقين الذين يتعاطون الحبوب أيضا.
"زيدون كبتي" كما يسميه أصدقائه، هو أحد أكثر السائقين إدماناً على حبوب "الكبتاجون"، المخدرة، وبدأ بتعاطيها منذ عدة سنوات، ثم أدمن عليها واخترقت جسده وحياته وعمله فانقلب كل شيء رأسا على عقب وتحوّل إلى شخص آخر يمضي يومه مخدراً على الدوام.
"تعاطي سواق الشاحنات والسائقين بشكل عام للحبوب المخدرة بات أمراً طبيعياً ومتعارف عليه، وهناك من يؤمن تلك الحبوب كي تصل للجميع"، يقول أحمد حسين، سائق سيارة وصديق لـ"زيدون كبتي" في حديث لموقع IQ NEWS.
ويضيف حسين أن "زيدون ليس الوحيد الذي يتعاطى الحبوب المخدرة، بل أن أغلب السائقين يتعاطون الحبوب نفسها، لكن زيدون أدمن عليها بشكل كبير كما أدمن على المقهى الذي يجلسفيه للحصول على شريط من الحبوب أو شريطين يكفيانه ليوم واحد أو اثنين، وهذا الأمر سبب له مشاكل عائلة وطلّق زوجته إثرها، كما بات يهلوس كثيراً".
لم تقف آثار تعاطي "زيدون" لهذا الحد، فقد تراجع عمله بنقل الإطارات بين المحافظات ولم يعد يخرج للعمل كثيراً، وفي الفترة الأخير صار لا يسافر بحمولة ما لم يكن متعاطياً للحبوب، وباتت قيادته للسيارة سيئة وشوهد أكثر من مرة غير منتبه للطريق أو التخسفات الكثيرة فيعبرها مسرعاً، كما يقول صديقه أحمد حسين.
بعض مالكي السيارات التي عمل فيها "زيدون كبتي" طردوه فـ"الناس تخشى على مصالحها ولا تسلم بضاعتها لشخص لا يستطيع السيطرة على نفسه"، يضيف حسين، ثم يكمل: "حاولنا نحن أصدقائه المقربون منعه ولو لفترة قليلة من التعاطي أو على الأقل الابتعاد عن تعاطي الحبوب المخدرة أثناء العمل، لكننا فشلنا. لاحقاً اضطر زيدون للعمل في مكان آخر بعد طرده من بغداد".
"آخرون يفضلون البيرة"
في السنوات القليلة الماضية، أخذت تجارة الحبوب المخدرة و"الحشيشة" و"الكريستال" بالانتشار المتزايد في العراق، وأصبح لها سوقاً رائجة ومستهلكون جدد بأعداد كبير، وفق تقارير رسمية وغير رسمية.
وامتد تعاطي الحبوب المخدرة لسائقي سيارات الصالون "الكثير من سائقي السيارات الكبيرة والصغيرة يتعاطون المخدرات بأنواعها وأيضاً شرب الخمور أثناء القيادة"، يقول حسن هادي، وهو سائق "جارجر" ينقل الركاب بين الناصرية وبغداد.
ويوضح هادي في حديثه لموقع IQ NEWS، إن "هناك سرية تامة في إيصال هذه المواد للسائقين، ويتم جلبها عبر سائقين أيضاً ومعروفين في الناصرية. هؤلاء مختصون في حبوب الكبتي التي يروج لها بينهم على أنها منشطة وتجعل متناولها صاحياً على مدى أيام".
ويفصّل أكثر فيقول، إن "القليل من السائقين يتعاطون الحبوب خلال القيادة على الطرق الخارجية. في الغالب يشربون البيرة خلال العمل، لكن حبوب الكبتاجون هي الأكثر تداولاً حتى الآن لسهولة تمريرها بين المتعاطين".
حوادث يومية تودي بالعشرات
وتقع يومياً الكثير من حوادث السير على الطرق الخارجية، وبعضها يكون مميتاً، بما في ذلك الطريق بين الناصرية وبغداد، لكن لا توجد إحصائية بعدد الحوادث التي يمكن أن يكون سببها تعاطي السائقين للحبوب المخدرة.
اخترع "الكبتاجون" في ستينيات القرن الماضي ليمنح نفس التأثير المحفز الذي تقدمه مجموعة من الأدوية تسمى " amphetamine" وتوصف لعلاج حالات مرضية مثل "الخدار" acrolepsy)) أو "الضعف الشديد" (fatigue) وكذلك الاكتئاب.
ومنع استخدام هذا النوع من الحبوب عالمياً في ثمانينيات القرن الماضي، وأدرج ضمن قوائم المواد المخدرة، أما الحبوب الموجودة اليوم فتصنع بطرق غير شرعية وتحتوي على مواد غير تلك التي استخدمت بادئ الأمر، كما يقول الصيدلاني رائد العتابي لموقع IQ NEWS.
مواد "مفضلة" لعناصر التنظيمات المتشددة
ويشير العتابي إلى أن حبوب "الكتباجون" تنتشر بكثرة بين عناصر التنظيمات المتشددة المسلحة في الشرق الأوسط لأنها تعطي شعور بحالة جيدة جداً و"يشعر المقاتل بأنه لا يقهر" عند تعاطيها، لكنها تتسبب أيضاً بالهلوسة وعدم انتظام ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم والارتجاف، والصرع أحياناً.
ويضيف، ان "تأثير هذه الحبوب على السائقين تتلخص بانعدام التركيز أثناء القيادة وبالتالي زيادة الحوادث المرورية، لكن لا توجد معلومات كاملة عن تأثيره في هذا الجانب لعدم وجود دراسات علمية"، لافتاً إلى أنه "تحليلات الدم لضحايا حوادث كثيرة أظهرت وجود نسبة من مركبات الامفيتامين المنشطة".
عساكر وموظفين وطلاب أيضاً
وبحسب مديرية شؤون المخدرات والموثرات العقلية في وزارة الداخلية، فإن العام الماضي،2020، شهد توقيف 200 موظف، ومثلهم طلاب، و1000 عسكري على ذمة قضايا تعاطي أو تجارة المخدرة، لكن النسبة الأكبر من المعتقلين على ذمة هذه القضايا كانت لأصحاب أعمال حرة تجاوز عددهم الـ6 آلاف.
ومجموع هؤلاء المعتقلين في 2020، فاق الذين جرى اعتقالهم عام 2019، للسبب ذاته، وفق أرقام هذه المديرية التي تأسست عام 2017.
وكانت نسبة البالغين أكثر من الفئات العمرية الأخرى من مجموع 7 آلاف رجل و100 امرأة اعتقلوا العام الماضي بسبب تعاطي أو الاتجار بالمخدرات.
في محافظة ذي قار، ومركزها مدينة الناصرية، لا يكاد يمر يوم دون إعلان الاجهزة الأمنية عن اعتقال أشخاص يتاجرون بالمخدرات أو مروجين أو موزعين للحبوب المخدرة، بينما تشهد مناطق جنوب العراق تزايداً في أعداد المتعاطين، دون أن تنجح الأجهزة الامنية بالحد من تدفق المخدرات إلى البلد.