بغداد - IQ
بخطاب سياسي – طائفي، مادته "المظلمة" السنية في عراق ما بعد 2003، يقابله خطاب شيعي مضاد يستدعي "المظلمة" التاريخية لهذا المذهب و"المؤمرات المحاكة ضدّه" بعد تولي أحزابه الحكم عقب الإطاحة بنظام صدام حسين، تهيأت الظروف صيف عام 2014، ليدخل تنظيم داعش كلاعب جديد على الساحة العراقيّة.
بعد دخوله "السلس"، مستغلاً الانقسام السياسي، غيّر هذا التنظيم الذي جاء أول الأمر من سوريا والتحقت به خلاياه "النائمة" وأنصاره وجماعات متشددة مسلحة، خارطة العراق، وأشكال مدنه، وعدد سكانه حتى.
وجد داعش، الذي كان قبلها يسيطر على مساحات واسعة شرقي سوريا، الطريق سالكاً نحو الموصل في حزيران 2014، فدخلها في التاسع من ذلك الشهر، بعدما أزال العلائم الحدودية بين سوريا والعراق ليوحد ما سمّاه "أرض الخلافة" ويغير اسمه إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
كان الجيش العراقي منهاراً وقتها، بفعل الفساد الإداري في مفاصله وخوضه حرب استنزاف طويلة ومواجهات عسكرية متقطعة مع تنظيمات متشددة مختلفة في مناطق غرب وشمال العراق، منها تنظيمي "القاعدة" و"جيش الطريقة النقشبندية".
وبنحو متسارع، سيطر داعش على محافظة نينوى وأجزاء واسعة من الأنبار وديالى وصلاح الدين وكركوك، وخضعت المناطق له تباعاً مقابل تراجع سريع وغير منظم للجيش العراقي، و"تلاشي" قوات الشرطة، كما أكد، لاحقاً، ضباط وجنود ومواطنين عايشوا الأحداث.
وصل التنظيم إلى تخوم العاصمة بغداد، وصار يقاتل في مناطق جهتها الشمالية محاولاً إحداث ثغرة للنفاذ منها باتجاه العاصمة، كما سيطر على منطقة جرف الصخر شمالي بابل ذات البساتين المترامية، والتي تقع على الطريق بين بغداد وكربلاء.
حينها، اعتمد رئيس الوزراء نوري المالكي التصعيد الطائفي مستخدماً في ذلك مؤسسات الدولة الرسمية، واستعان بالفصائل الشيعية المسلحة لتأمين خواصر بغداد الشمالية وسدها أمام تقدّم التنظيم.
واتفقت أراء العديد من القادة السياسيين الشيعة على كون المعركة "مذهبية" بالدرجة الأولى، وبدأوا يحشدون في هذا الإطار.
في المقابل، كان أبرز السياسيين السنة وذوي الصوت الأعلى، أسامة النجيفي، وشقيقه أثيل، محافظ نينوى، إضافة إلى رجل الأعمال المقيم خارج البلاد، حينها، خميس الخنجر، يعتمدون نبرة مماثلة لكن مضادة، ولا يبدون أي ثقة بكون الجيش وطنياً.
بعض هؤلاء وحلفاء لهم، خرجوا تلك الأيام في مقابلات متلفزة ليطلقوا على الجيش اسم: "جيش المالكي".
خطبة العدناني وفتوى السيستاني
في جنوب ووسط العراق، حيث معقل الشيعة ومناطقهم الرئيسة، كان الجميع يشعر بالخطر، وانقسم الشعور بين الخوف والتفكير بالسفر بالعائلات إلى الخارج، وبين التحدي والتهيؤ للقتال.
لكن ما ألهب المشاعر ووّحد الموقف والوجدان الشيعي تقريباً، هو تهديد الناطق باسم داعش، أبو محمد العدناني في خطاب بثه يوم 12 حزيران 2014، بأن وراء هذه المعركة "حساب ثقيل" لن تتم تصفيته "في سامراء أو بغداد، إنما في كربلاء والنجف"، وإن "الوطيس لم يحم بعد".
آنذاك، دعا العدناني، الذي قُتل لاحقاً، مقاتلي التنظيم إلى عدم "الغرور" بالانتصارات التي حققوها، ولا بما غنموه من معسكرات الجيش: "طائرات ودبابات وهمرات وأسلحة وذخائر".
وما إن طرقت هذه الخطبة أسماع مراجع الدين في النجف، حتى أطلق المرجع الشيعي الأكبر بين أقرانه، علي السيستاني، فتوى "الجهاد الكفائي"، بعدها بيوم واحد، أي في 13 حزيران 2014.
في غضون أيام، تكوّن خليط من المقاتلين بأعمار متفاوتة، جمعوا لاحقاً بعنوان "الحشد الشعبي"، كما عادت إلى العراق الفصائل الشيعية المسلحة التي كانت تقاتل في سوريا بجانب نظام بشار الأسد.
ومع هذه، رمت إيران بثقلها، وأرسل حزب الله اللبناني مستشارين ومدربين لتنظيم جبهة الفصائل الشيعية، وانخرطت العديد من الدول الغربية في تحالف دولي لقتال داعش من الجو.
الانطلاق من "الجرف"
بعد ذلك، بدأت المعركة الفعلية الأولى في منطقة جرف الصخر بين القوات الأمنية والفصائل الشيعية والمتطوعون من جانب، وتنظيم داعش من جانب آخر، وفي تشرين الأول 2014، حققت جبهة الدولة وحلفائها انتصارها الأول على التنظيم المتطرّف.
لكن النصر هذا سيكلف أهالي جرف الصخر نزوحاً مستمراً يمنعهم من العودة إلى منازلهم.
بعد ذلك، انتظمت جبهات القتال مستندة على الارتفاع في المعنويات بعد معركة جرف الصخر، واستعيدت الحواضر المدنية من سيطرة تنظيم داعش تباعاً، وفي غضون 3 سنوات، أعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي النصر وهزيمة "داعش".
يومها، وقف العبادي على أنقاض جامع النوري في مدينة الموصل، ليلقي "بيان النصر"، وهو المكان ذاته الذي أعلن منه زعيم داعش السابق أبو بكر البغدادي قيام "دولة الخلافة".
عمِد مقاتلو التنظيم الذين كانوا محاصرين في الموصل القديمة إلى تفجير هذا الجامع قبل وصول القوات العراقية إليه.
كلف الحرب الباهضة
لا توجد إحصائية رسمية بأعداد الضحايا العسكريين والمدنيين نتيجة الحرب ضدّ داعش، لكن تقرير أممي نشر عام 2016 أحصى نحو 18 ألفا و802 قتيل، إضافة إلى 37 ألف جريح سقطوا بين عامي 2014 و2015، مع 3.2 ملايين نازح، وذلك قبل بدء معركة الموصل في تشرين الأول 2016.
وتبدو هذه الأرقام متناقضة مع أرقام موقع " Iraqi body count"، البريطاني المختص بحساب عدد القتلى من المدنيين في العراق، والذي يشير إلى مقتل 35،989 مدنياً خلال سنوات 2014 و2015 و2016.
وبينما قال وزير الخارجية العراقي الأسبق، هوشيار زيباري، إن 40 ألف مدني قتلوا في الموصل وحدها، تحدّثت تقارير مستندة على شهادات للسكان عن انتشار جثث المدنيين القتلى تحت أنقاض منازلهم في الموصل، عندما كانت المعارك قائمة.
كما قتل تنظيم داعش الآف من الرجال والنساء الإيزيديات الطاعنات في السن، عندما سيطر على سهل نينوى، وسبى آلاف النساء والفتيات ليعرض المئات منهن للبيع في أسواق "النخاسة" في العراق وسوريا.
واعتبرت الأمم المتحدة ما جرى للإيزيديين "إبادة جماعية"، وتكشفت بعدها مقابر جماعية خاصة بهم، وآخرها فُتحت قبل أشهر قليلة وكانت خاصة بالنساء الطاعنات.
ولا توجد أيضاً إحصائية رسمية حتى الآن بعدد قتلى الجيش والقوات الأمنية الأخرى، لكن عددهم بالآلاف، حسب تصريحات متفرقة لمسؤولين أمنيين.
جهاز مكافحة الإرهاب وحده، فقد 40% من مقاتليه حتى عام 2017، وفق تقديرات أميركية.
أما الخسائر الاقتصادية العامة، فقدرها رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بأكثر من 100 مليار دولار، وفي مختلف القطاعات، في ظل دمار هائل للبنى التحتية في المناطق المستعادة من داعش، والتي لا زال بعضها لم يرمم أو يبنى من جديد حتى الآن.
تحقيق برلماني
في 2015، أدرج اسم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي و35 مسوؤلاً، عسكرياً ومدنياً، بينهم محافظ نينوى الأسبق أيضاً، أثيل النجيفي، في ملف يحدد "المتسببين" بسقوط الموصل ويحملهم المسؤولية عمّا آلت إليه الأحداث.
أوصى التقرير بمحاسبة الاسماء المثبتة فيه، لكن لم يتم اتخاذ إجراءات ضدهم حتى الآن.
"الخنجر" يعود
وفجأة، عاد خميس الخنجر إلى بغداد في 2018، وأسقطت مذكرة القبض الصادرة بحقه بتهمة التحريض على الإرهاب، بناءً على وساطة سياسية شيعية، في حين فقد أسامة النجيفي بريقه السياسي ولم يعد صوته مسموعاً داخل المجتمع السني.
يحمّل بعض السنة في العراق، ومنهم سياسيون، هذا الفريق مسؤولية جر هذه المعاناة لمكونهم، الذي صدم بهول الأحداث ودمار مدنه وتشرد الملايين من أبنائه وسكنهم في مخيمات، تفتقر لأبسط مقومات العيش كما أفادت تقارير حقوقية.
على "جسر بزيبز" الرابط بين الأنبار وبغداد، منع آلاف المدنيين الهاربين من داعش، من العبور إلى أن يجد كل واحد منهم كفيلاً من سكان العاصمة يدخله بضمانته.