يأمل "بجاي كامل" ذو التاسعة والعشرين عاماً، أن تكون مياه أهوار الجبايش، في جنوب العراق، وفيرة خلال فصل الصيف، فانخفاض مناسيبها يعني له خسارة العمل وفقدان مصدر لقمة العيش للعائلة.
"ولدت وعشت في الأهوار، ليس لدي مؤهلات أو إمكانيات للعمل خارجها، ولا أعرف أي عمل سوى صيد السمك.. ولدت صياداً وسأموت صياداً.. وهذا العمل هو كل شيء بالنسبة لي"، يقول كامل لموقع IQ NEWS.
لهذا الشاب ابتسامة يعهدها منه زملائه في كلّ مرة يعود فيها على متن "المشحوف" الخاص به، من عمق الأهوار مع محصوله من الصيد، بعدما يقضي يوماً طويلاً وشاقاً وهو يبحث عن السمك، لكن خلال هذه الأيام، فإنه قلق وتنتابه المخاوف، بعدما انخفض منسوب مياه الأهوار ولاح الجفاف فيها.
عندما تجفّ الأهوار، التي لها تاريخ من الجفاف منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومن ثم في 2007 و2013، و"ربما في القريب القادم" أيضاً، فإن المنطقة تصبح مهجورة.
وتبلغ مساحة الأهوار ما يقارب 38 الف متر مكعب وهي تمتد في محافظات البصرة وميسان وذي قار، ولا توجد إحصائية دقيقة عن أعداد السكان الذين يعيشون في تلك المناطق والتي يعتمدون في حياتهم بشكل أساسي على المياه والقصب والحيوانات.
"أتمنى تدخل السماء"
"تزوجت ولديّ بنتين، وكل رزقي وعيشي على الأهوار ولا أملك مصدر رزق آخر غير صيد الأسماك، وخلال الفترة الأخيرة، بدأت المياه تجف في عدد من مناطق الأهوار وأنا اليوم أشعر بالخوف من أن أفقد رزقي، أتمنى أن تكون رحمة الله حاضرة لتنقذنا"، يضيف "كامل بجاي" في حديثه لـIQ NEWS.
يتوقع متابعون وناشطون في مجال البيئة، أن انحسار المياه عن مناطق الأهوار قد يفقد الغالبية العظمى منهم مصدر رزقهم، كما يهدد حياة آلاف الحيوانات سيما الجاموس الذي يعد جزءاً حيوياً من معيشة سكان الأهوار.
وقبل وقت قريب، اضطرت نحو 13 عائلة من مربي الجاموس إلى النزوح من إحدى القرى في الأهوار الوسطى في الجبايش إلى أماكن أخرى يتواجد فيها المياه، بعد جفاف قريتهم، بحسب منظمة الجبايش للسياحة البيئية.
"يباس أرض أم العظام بدأ"
ويقول رئيس المنظمة، رعد الأسدي لموقع IQ NEWS، إن "قرية أم العظام في الأهوار الوسطى هي أول المناطق المتضررة من الجفاف بعد أن تيبست الأرض هناك واصبحت قاحلة، الأمر الذي دفع السكان للهرب بعيداً عن الجفاف وبحثا عن المياه، كما أن شحتها ستسبب التصحر في منطقة إيشان أم العظام".
ويحذر "من استمرار انخفاض مناسيب المياه التي قد تدفع المزيد من السكان إلى الهجرة إلى مناطق أخرى بعيدة ربما خارج قضاء الجبايش مثلما حصل في السنوات الماضية حينما كانت شحة المياه كبيرة، هاجر السكان برفقة الجاموس إلى مناطق الفرات الأوسط بحثاً عن المياه".
ويضيف أن "هناك مشاكل أخرى تواجه هذه المناطق وهي أن موسم الشلب على الأبواب والمحاصيل الصيفية الأخرى تستهلك الكثير من المياه، كذلك التجاوزات من قبل أصحاب البحيرات وأحواض الأسماك والتجاوز على الحصص المائية ما بين المحافظات، كلها ساهمت في التأثير على تلك المناسيب وهذه الأسباب تشكل خطراً على تلك المناطق".
"سنخسر 11 مليار متر مكعب من المياه"
من جانبه، يرجح المستشار الفني في وزارة الموارد المائية، عون ذياب، خسارة العراق لـ11 مليار متر مكعب من المياه بحلول عام 2035.
وقال ذياب لموقع IQ NWES، إن "الدراسة التي عملت عليها الوزارة خلال الفترة الماضية تقدر خسارة العراق من المياه بـ11 مليار متر مكعب حتى عام 2035، من إجمالي المورد الحالي"، مبينا أن "خسارة هذه الكمية الكبيرة سيكون لها أثر واضح على تأمين الاحتياجات".
ويضيف أن وزارته "عملت على وضع الكثير من الخطط من أجل الوصول إلى حلول ناجعة منها إعادة النظر في المنظومة الإروائية على اعتبار أن الزراعة هي المستهلك الرئيسي للمياه".
حتى عندما تضع وزارة الموارد المائية خطة لبناء منظومة مائية جديدة لتقليل الضائع من المياه وترشيد الاستهلاك، فإن نجاحها يحتاج إلى اسناد حكومي يجعل "التخصيصات المائية" للعراق تتدفق من الدول التي تقع على منابع دجلة والفرات وبقية الأنهر، كما يقول ذياب.
ويدعو المستشار الفني المائي، إلى توظيف "كل الجهد الدبلوماسي الحكومي" للضغط على دول الجوار من أجل الالتزام في منح العراق حصة المائية بـ"شكل عادل ومنصف".
حتى منتصف الشهر الجاري، وصلت مناسيب مياه نهر الفرات في قضاء الجبايش الى أعلى منسوب وهو 178 سم لهذا العام، فيما كان أدنى منسوب وهو 137 سم.
الخسارة تطال مربي الجاموس أيضاً
في أهوار الجبايش ذاتها، تعيش "أم كاظم" خوفاً "شديداً" عندما تشاهد تراجع مناسيب المياه، فعمل هذه المرأة في بيع ألبان الجاموس يتهدد نتيجة ذلك.
ويتوّجب على هذه المرأة الستينية نقل منتجاتها من الحليب والجبن والقيمر إلى زبائنها في ساعة محددة من اليوم، ويتم ذلك عبر السير في "المشحوف" لساعات في الأهوار.
وتقول "أم كاظم" لموقع IQ NWES، إن وسيلة النقل الأساسية في عملها هو المشحوف، وعندما تنظر إلى مناسيب المياه وتجدها قد انخفضت، فإن ذلك يذكرها بتجارب السنوات الماضية عندما أدى جفاف الأنهر إلى توقف عملها فبدأت تعاني في إعالة عائلتها الكبيرة.
"الكثير من النساء يعملن في بيع السمك والأجبان والحليب والقيمر وصناعة بعض الحصران من القصب وغيرها من الأعمال والحرف اليدوية لإعالة عوائلهن، وقد تضررت أعمالهن بسبب جائحة كورونا والتظاهرات التي توقفت إثرها حركة السياحة في مناطقنا"، تقول "أم كاظم".
كانت الأهوار قد مرت بفترات جفاف، فقدت فيها آلافاً من الجاموس ونفقت فيها الكثير من الأسماك ونزحت فيها العشرات من العوائل في كل مرة، واليوم تنتشر في تلك المناطق مخاوف كبيرة إزاء تراجع مناسيب المياه مجدداً.