كان "أحمد" الجندي في حرس الحدود، يرابط في مكانه الجديد الواقع قبالة الحدود الغربية، حين فوجئ بمسلّح خلفه، وهو يصوّب الرشاش على ظهره، واضعاً إصبعه على فمه كإشارة تحذير للسكوت وعدم الحركة.
في تلك اللحظات من الليل، وّزع "احمد" الجندي المستجد الحائر، نظراته بين الأفق أمامه وبين المسلّح في الخلف، ولمح أشخاصاً يعبرون من الأراضي العراقية إلى الجانب السوري، ولمّا اختفوا عن مدى النظر، انسحب المسلّح بهدوء بعد أن وضع مبلغاً مالياً في "جيب الجندي".
لم يفهم هذا الجندي المنتسب حديثاً إلى قوات حرس الحدود ما جرى لحظة وقوعه، لكن عندما انتهى واجبه وعاد إلى مقر الاستراحة تبيّن له أن "الأمر كان مُتفقا عليه، فالضابط الذي كان مسؤولاً عنه متعاون مع جماعات التهريب، وقدّم لها معلومات عن وجود جندي جديد تتزامن فترة مناوبته مع أحدث عملية لها، وينبغي ضمان سكوته".
الضابط "المتواطئ"، تطلع للجندي بعد عودته من المناوبة، قائلا، "عفية.. طلعت سبع"، في إشارة إلى أنه كان يعلم بما جرى، ولاحقاً عرف الجندي، أن المسلّح الذي أسِرَه لبعض الوقت، ووضع 1100 دولار في جيبه قبل رحيله، إضافة إلى الأشخاص الذين عبروا الحدود، لم يكونوا سوى اتباع يعملون لصالح مهرب كبير "يتعاون معه ضباط في حرس الحدود العراقي، وكذلك جنود مقابل أموال كبيرة".
"علي فاخر"، وهو اسم مستعار، لجندي في قوات مغاوير حرس الحدودي العراقي، تحدث لموقع IQ NEWS عن "تواطؤ ضباط عراقيين مع مهربين ينشطون على الحدود العراقية السورية"، واشار إلى أن "هناك آلية لإقناع ضباط وجنود بالتغاضي عن عمليات التهريب مقابل الأموال".
يقول "فاخر"، إن "المسلّح الذي أسرَ ذلك الجندي، ثم وضع المبلغ المذكور في جيبه باتفاق مسبق مع الضابط المسؤول عنه، هو أحد اتباع (ابو حاتم) المهرب المشهور في تلك المنطقة"، مضيفاً أن "العديد من الضباط والجنود يعملون لصالح هذا المهرب الذي يعطيهم من الأموال بما يجعل الراتب الذي يأخذونه من الدولة لا شيء أمامها".
ويتبع أسلوب "أبو حاتم" الترغيب والترهيب في تعامله مع حرس الحدود العراقي، بحسب "علي فاخر" الذي يقتصر واجب صنفه على مساندة المخافر الثابتة على الأرض عند تعرضها لهجوم ما.
ويوضح فاخر، أن هذا المهرب يقدّم الأموال أولاً، فإذا امتنع ضابط أو جندي عن أخذها وأصرّ على القيام بواجبه في التصدي لعمليات التهريب، وقتها يلجأ اتباعه إلى القوة "لكنهم في الغالب لا يتورطون في عمليات قتل، ما لم يكونوا مضطرين لذلك".
"أموال مغرية وسلاح ثقيل"
ضمن حلقة من برنامج تلفزيوني بثته قناة فضائية عراقية في 10 آب 2019، حول الشريط الحدودي بين العراق وسوريا، تحدّث ضابط عسكري عراقي، عن "امتلاك ابو حاتم إمكانيات دولة، واجتيازه الحدود بين البلدين بواسطة رتل مكون من نحو 30 - 40 عجلة، متحدياً حرس الحدود بسلاحه الذي يفوق سلاحهم فيضرب المخافر الحدودية ثم يكمل طريقه".
تمتد الحدود العراقية السورية على مسافة تزيد عن 600 كم، وتحاذي من الجانب العراقي محافظة الأنبار ونينوى، ومناطق التنف ودير الزور والحسكة من الجانب السوري، وهناك 3 معابر حدودية تربط الجانبين أهمهما منفذ البوكمال – القائم.
من هذا الاتجاه، دخل آلاف من عناصر التنظيمات المتطرفة إلى العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين عام 2003، وصولاً إلى تجريف تلك الحدود من قبل تنظيم داعش عام 2014 "توحيداً لأرض الخلافة" التي شمِلت مناطق واسعة من العراق وسوريا.
ويستطرد "علي فاخر" في ذكر موقف لا زال عالقاً في ذاكرته حتى الآن، رغم القتال الشرس الذي شارك فيه مراراً ضدّ تنظيم داعش بعد ذلك، قائلاً "في أحد الأيام وصلت معلومات استخبارية عن عملية تهريب صهاريج نفط سيقوم بها أبو حاتم، فاستعد جنود حرس الحدود لإحباطها.. نصبوا كميناً في عمق الصحراء وكانوا مختبئين بشكل جيّد، ثم وقعوا في الأسر.. ظهر أتباع أبو حاتم الذين طوقوا المكان وأخذوا الجنود رهائن".
بعدها، والكلام لـ"فاخر"، جاء أبو حاتم بنفسه وسحب جهاز اتصال لاسلكي من أحد الجنود ليتصل بضابط القوّة العراقية، ويساومه على عبور قافلة التهريب مقابل إطلاق سراح الجنود الأسرى، لكن الضابط رفض بشكل قاطع، ومع ذلك عبرت القافلة فأطلق "ابو حاتم" سراح الجنود وأعاد إليهم أسلحتهم.
الضابط برتبة عقيد، الذي ظهر على قناة "آسيا" الفضائية العراقية، أكد قدرة "ابو حاتم" على أسر عناصر من حرس الحدود العراقي، قائلاً "كل شيء مباح أمام هذا الشخص، يقتل إذا اراد، ويحتجز إذا اراد، ويدمر الثكنات إذا شاء".
وحول ما إذا كان هذا المهرب مسنوداً من جهات وشخصيات ذات نفوذ توفر له الحماية، ردّ الضابط على سؤال مقدّم البرنامج المتلفز "100 بالمئة نعم، الشخص الذي يضرب دولة ويعبر الحدود هل تتصور عدم وجود أناس خلفه؟.. لازم لديه قاعدة وناس وكذا".
ويؤكد "علي فاخر"، أن "أسلحة اتباع ابو حاتم تفوق أسلحتنا، وإذا ما دخلنا في اشتباك معهم فستكون الغلبة لهم بفضل رشاشاتهم الثقيلة ذات الـ23 ملم، وهذه مضادة حتى للطائرات".
"المستوى صِفر"
"رغم كل شيء، الدولة ليست ضعيفة، ولدينا أناس يخططون"، يقول الضابط الذي ظهر في اللقاء المتلفز على الحدود مع سوريا، مستشهداً بـ"كمين نصبته الاستخبارات العراقية لـ(أبو حاتم) عند دخوله الأراضي العراقية مستهدفة إياه (في إحدى المرات)" لكنه لم يذكر ما أسفر عنه الكمين.
من جانبه، يقيّم الخبير الأمني مؤيد الجحيشي أداء قوات حرس الحدود العراقي بمستوى "صفِر"، لكنه لا يحمّلها "كلّ اللوم"، لأن قوات أخرى مكلفة أيضاً بضبط جزء من الحدود العراقية السورية، ما لا يسمح بـ"مسكٍ كامل للأرض".
ويرى الجحيشي، أن "الأموال الضخمة" هي العامل الأهم في هذه القصة "إنها تغري أكبر شخص.. ملايين الدولارات، وأن كل من يرفض التواطؤ يُقتل أو يتم نقله إلى مكان آخر".
لم يتوقف نشاط التهريب على الحدود العراقية السورية رغم كلّ المتغيرات والأحداث الأمنية الخطيرة التي شهدتها تلك المناطق بضمنها أحداث عام 2014 وما تلاها، كما يقول الجحيشي، مبيناً أن مهربي المخدرات والنفط والأسلحة والبضائع منتهية الصلاحية وحتى البشر وكذلك الحنطة والشعير، كانوا يسلكون مسارات معقدة ويتعاملون مع مختلف الجهات غير الرسمية والتنظيمات المتطرفة في العراق وسوريا، عندما تفرض سيطرتها على أراضٍ شاسعة تقع فيها خطوط التهريب.
"قائد الحرس يقرّ"
"الخلل موجود في كل مكان.. الملف معقد وفيه اغراءات، والتواطؤ يقع على مسؤولية القادة الموجودين الذين يجب عليهم متابعة ضباطهم"، يقول قائد حرس الحدود العراقي الفريق الركن حامد الحسيني معلقاً على "المعلومات" التي أدلى بها "علي فاخر" حول "تواطؤ ضباط في حرس الحدود مع مهربين ينشطون بين العراق وسوريا".
ويقرّ الحسيني في حديثه لـIQ NEWS بتعرض بعض ضباطه لـ"ضغوطات"، خاصة فيما يتعلق بتهريب المخدرات، ويقول إن "عصابات تهريب المخدرات ليست هينة لأنها عصابات دولية، تولّد ضغوطات على كلّ الجهات، سواءً كانت أمنية أو غير أمنية"، مبيناً أن "ملف التهريب على الحدود العراقية الغربية يبدأ من لبنان وينتهي بسوريا ويصل إلى الأردن".
ولكن "القاصي والداني يشهد بواجبات حرس الحدود ومساندة الاستخبارات"، يستدرك الحسيني، مشيراً إلى أن "أكثر من 500 كغم من المخدرات ضُبطت على الحدود مع سوريا، وأن هناك مهربين جرى اعتقالهم واحالتهم إلى القضاء العراقي وقد صدرت بحقهم أحكاماً بالإعدام أو السجن المؤبد".
ويشدد قائد قوات حرس الحدود العراقي، على الحاجة إلى "ضباط نزيهين وكفء لضبط الحدود ومنع التهريب، واشعارهم دائماً بأنهم مسنودون من القيادة، فضلاً عن اتباع برنامج التدوير وعدم الإبقاء على ضابط في منصبه لمدة طويلة"، موضحاً أنه يقوم بهذه الامور، وأن قواته الآن مشغولة بالعمل مع جهاز مكافحة الإرهاب لتأمين الحدود مع سوريا، محمّلاً الآمرين العسكريين مسؤولية كبيرة في "متابعة ضباطهم".
وبينما يقول الخبير الأمني مؤيد الجحيشي، بأن نشاط التهريب موجود على حدود العراق مع كلّ الدول المجاورة له، (سوريا وتركيا وإيران والكويت والسعودية)، ويتفاوت مستواه وحجمه وكذلك البضائع المهربة باختلاف هذه الدول، يقول المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، إن وزارته "تفتخر" بامتلاكها أجهزة متطورة لتعقب المهربين.
ويبيّن المحنا لـ IQ NEWSأن الوزارة "تستخدم منظومة GIS لكشف المهربين وعابري الحدود، وهي تفتخر بامتلاكها هذه التقنية التي هي الآن بحوزة جهاز الاستخبارات، ويندر وجودها في العديد من الدول العالم"، مبينا أن "أي خرق للحدود أو تغيير في المسارات الجغرافية للطرق يُؤشر لدى وزارة الداخلية بشكل مركزي، وبالتالي تتم ملاحقة الأشخاص المتجاوزين".
ويضيف، أن "الطائرات المسيّرة دخلت أيضاً إلى الخدمة وهي مهمة جداً وتؤدي دوراً كبيراً، وهناك توجيهات باكمال المشاريع التقنية المتلكئة، الخاصة بأمن الحدود، وتفعيلها بشكل سريع، في مقابل التكنولوجيا المتطورة التي يستخدمها المهربون بعملهم مثل طائرات الدرون".
ويؤكد المتحدث باسم وزارة الداخلية إتّباع وزارته آليات عدة لمنع حصول عمليات تواطؤ بين الضباط والمهربين، بينها "التدوير المستمر وعدم إبقاء أي شخص في منصبه لفترة طويلة وتوفير الحماية للمنتسبين واتخاذ اجراءات سريعة في حال تعرضهم للتهديد أو الاعتداء"، مشيرا إلى أن "التهريب موجود في كل دول العالم ولا يمكن ايقافه".