بغداد - IQ
تحت تأثير الحلم بعهد جديد تسوده المساواة والعدالة، وتطير الحمامات البيض في سمائه رمزاً للسلام بعد حقبة حمراء من لون الدم في تاريخ العراق، صمم الفنان العراقي الراحل فائق حسن جداريته المعروفة باسمه "جدارية فائق حسن" في ساحة الطيران وسط بغداد، عام 1958، بتكليف من رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم قاسم، المنقلب حديثاً على الملكية وزعيم "الثورة".
المزاج الشعبي حينها، والمعاني التي جسدّها فائق حسن في الجدارية المصنوعة من آلاف قطع السيراميك وألوانها الحداثية، جعلت من هذه الجدارية آيقونة لا تنتصب في ساحة الطيران وحسب، بل تمتد إلى قصائد الشعراء ومخيلة الروائيين العراقيين ليوظفها الكثير منهم في أعمالهم الفنية.
وتمثل الجدارية مجموعة أناس ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة، وقد اجتمعوا معاً بطريقة هارمونية متناغمة، أياديهم مرفوعة فرحاً وعلى أكفهم حمامات بيضاء، وفي منتصف الجدارية امرأة شابة تطلق حمامتين من بين يديها، وحولها جندي وعامل ومزارع ونساء بأثواب مكشوفة ملوّنة، وفي الأسفل طفلٌ يدير ظهره للرائي وقربه قفص حمام مفتوح وفارغ.
وعندما تعاقبت الانقلابات العسكرية وفُقد السلام في بغداد وضاق مناخ الحرية بوصول حزب البعث إلى السلطة ثم صعود صدام حسين إلى رأس الهرم عام 1979 حاملاً معه خططا لحروب ستتعدد وتطول ويكثر ضحاياها وتؤدي لاحقاً إلى إزالة نظام البعث، ومن ثم إعدام صدّام نفسه، كانت جدارية فائق حسن تعاني الإهمال، معنىً وبناءً، وصارت محطة يجلس على رصيفها الباعة المتجولون أو عمّال اليومية أو المسافرون الجدد.
"لم تعد مهملة.. الكاظمي وضعها فوق رأسه!"
اليوم، وإن كانت جدارية فائق حسن مهملة في مكانها مغطاة بالتراب ويكتنفها النسيان، إلا أنها ليست كذلك في "مخيلة ووجدان" رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي. فالرجل، الذي عمل سابقاً، قبل توليه السلطة هذا العام، في مؤسسات مرتبطة بالمجال الثقافي، وهو على ما يقول عارفوه، مهتمٌ بفن العمارة ويطيل الحديث عنها مع أصدقائه المقربين، وضع صورة مجتزأة للجدارية كغلاف لحسابه على موقع تويتر، دون أن يغّير ذلك شيئاً من واقعها على الأرض، أو يلفت انتباه مسؤولي أمانة بغداد لـ"يهتمّوا بما اهتم به الرئيس".
يؤكد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، أن "حكومته جاءت بعد تظاهرات شعبية سالت فيها دماء، وتعوّق خلالها شبان كُثر خرجوا للمطالبة بوطن"، ويمكن تحديد ملامح برنامجه الحكومي بـ"صنع السلام للعراقيين وإبعاد شبح حرب الآخرين على هذه الأرض، وضبط تفلّت السلاح لينعم الجميع بالأمن وتدور عجلة البناء"، الأمر الذي يشبه بطريقة ما، ملامح جدارية فائق حسن وجزءا من معانيها.
لكن بعد مرور عدة أشهر على استلامه رئاسة الوزراء، باتت الاتهامات التي تطال الكاظمي كثيرة، بينها تخوينه من قبل خصومه السياسيين، وتكرار مدونين على مواقع التواصل الاجتماعي عبارة "الحكومة الفيسبوكية" في نقدهم له، بينما لا يزال رصيف جدارية فائق حسن، محطة استراحة للمتعبين، ممن يحتاجون إلى وضع قطعة كارتون أسفلهم لتجنب الغبار الذي يكسو اللوحة ويضّبب شيئاً من معالمها.
خلال تظاهرات تشرين الماضي، التي سقط فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى، وفي الأيام التي تلتها بما رافقها من ظروف سياسية معقدة، استعاد عراقيون قصيدة الشاعر سعدي يوسف، المعنونة بـ"تحت جدارية فائق حسن" للاستعانة بها في وصف اللحظة التي يمرون بها. حيث يقول "تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم (..) ينفث في ساحة الطيران دخاناً ثقيلاً، ويترك بين الحمائم والشجر المتيبس رائحة من شواء غريبة. يقول المقاول: نرجع بعد الغروب. تقول الحمامة: أهجع بعد الغروب يقول المغني: بلادي.. لماذا يظل الغروب؟.. انتهينا إلى البدء، يا وطناً ظل ينزف أبناءه بين (....) والماء والعجلات السريعة".
وحدهم المتظاهرون من بادروا في تلك الأيام إلى تنظيف محيط الجدارية، وطلاء قاعدتها الكونكريتية، وقاموا بزراعة شتلات في مقترباتها، ليعيدوا لها شيئاً من ألقها المفقود.